استيقظت الأمهات لإعداد الافطار للأبناء الذاهبين إلي الدراسة بمعهد النور الأزهري بمركز منفلوط بأسيوط مثل كل يوم وودعن الصغار بالدعاء والقبلات. ولم تكتمل الساعة حتي جاء نذير الشؤم. لينشر الحزن علي الجميع بعد حادث قطار اسيوط وتتسع المندرة بالسواد وليتجرع الأهالي العلقم في سكره ويضيع السند في بني سند. ويهرع الجميع ليلملم اشلاء الأبناء من علي القضبان بعدما أطاح بهم الإهمال والوسائل البدائية علي خطوط السكك الحديدية.. ورغم هذا كله مازال الخلاف مشتعلاً بين أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور وينسحب من يريد والبقية المتشددة تردد “هنكمل الدستور”.
تري هل سيتضمن الدستور مواد تحمي أطفالنا من الإهمال وتعطيهم الحق في الحياة والصحة والتعليم والأمان والعمل والكرامة الإنسانية؟!.. حول هذه القصة يدور النقاش.
إهمال متراكم
الدكتورة أميمة عمران -أستاذ ورئيس قسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة أسيوط- تقول: إن حقوق الأطفال ثابتة بالقرآن والسنة النبوية المشرفة. والدين الإسلامي مليء بالنصوص لحماية الطفل بدءاً من حقه علي والديه في اختيار الاسم والرعاية الصحية والتعليم والسكن. وهذه ثوابت يجب أن تدون في الدستور. وأن يكون متضمناً تشريعات صارمة لمنع التسرب من التعليم وتحقيق الرعاية الصحية والاجتماعية للأسوياء ولذوي الاحتياجات الخاصة ورعاية فائقة للموهبين. لأن إهمالهم يوئد المواهب داخلهم.
أما أطفال الشوارع “القنبلة الموقوتة” فهم كالشوكة في ظهر الوطن لابد من تشريعات تحتويهم إنسانياً بدلاً من تحويلهم إلي مخالفين وحانقين وأدوات لمن يدفع لهم للهدم والتخريب.
هذا عن خريطة الطفل المصري واحتياجاته.. أما عن الصعيد وأوجاعه وآلامه فهو حصاد لإهمال متراكم عبر السنين ويدفع ثمنه دائماً الصغار والكبار. وأتمني أن يكون الحادث المأساوي لضحايا القطار من الصغار هو آخر الأحزان لنا في الصعيد. وأن تتحقق تنمية حقيقية لنجوع وقري ومدن الصعيد بدلاً من المسكنات من التصريحات التي نسمعها عقب كل حادث أليم. وكفي إهمالاً واستخفافاً بالصعيد وتحويله إلي منفي للمغضوب عليهم من المهملين في وظائفهم حتي التفرقة واضحة في محطة سكك حديد مصر. نجد أن أرصفة الصعيد مهملة ومكسرة بعكس الأرصفة للوجه البحري نجدها نظيفة ومنتظمة.. كل هذه الأوضاع تسكن قلوب الصعايدة ويكبر داخلهم الإحساس بالتهميش وفقدان الهوية.
مصر الجديدة
الدكتورة ماجدة عبدالباقي -مدرس الصحافة بكلية آداب جامعة أسيوط- تؤكد أن بناء مصر الجديدة يبدأ ببناء الطفولة الصحيحة خاصة في الصعيد الذي تم بناء حضاراته وتاريخ مصر علي مر العصور بسواعد أجدادهم.. وبناء الطفل يبدأ منذ كونه جنيناً في رحم أمه.
تضيف أن أطفال الصعيد وأسيوط علي وجه الخصوص في مأساة. حيث لا يجدون إلا سيارات نصف النقل للتنقل لتتحول إلي علب لحمل البشر. وطبعاً الحوادث حدث ولا حرج. والعلاج للقادرين فقط لأن أغلب هذه النجوع دون وحدات علاجية أو صيدليات.. نفس الحال بالنسبة للأحوال المعيشية. حيث ازداد الأغنياء ثراء وأصبح الفقراء أكثر فقراً بعدما طالت الخصخصة مصنع أسمنت أسيوط الذي كان يمثل منفذاً لقطاع كبير من العمالة. خاصة أن المناطق الصناعية الموجودة لا تستوعب الجميع بعد أن اندثرت الصناعات المميزة لأسيوط كالكليم.
تطالب د.ماجدة بنظرة منصفة للصعيد خاصة أسيوط بعدما أصبح 90% من العمالة القادرة تجلس علي المقاهي التي أصبحت من أكثر المشروعات ربحية.. مضيفة: أعتقد أن هذا الحادث الذي راح ضحيته صغارنا هو جرس انذار لأصحاب القرار.
أكباد الصعيد
هناء عماد محمد -اخصائي شئون خريجين بكلية الصيدلة بجامعة بني سويف- تقول: إن الطفل المصري ينقصه الكثير من الحقوق في الدستور. وأولها حقه علي الدولة في توفير الحماية الكافية له ضد العنف في المدارس والشارع. وحق الحماية من الحوادث بالطرق.
تضيف أن الدستور لابد أن يتضمن الكثير للطفل. لأن أبناءنا أكبادنا خاصة في الصعيد تهدر حقوقهم في الختان والزواج المبكر والعمل في ظروف صعبة. كما أن أطفال الصعيد محرومون من كثير من الحقوق من مؤسسات الدولة كالتعليم الإلزامي المجاني.. ولابد من تشريعات تحمي أطفالنا من العمالة المبكرة للأطفال. وأن تتكفل الدولة بحماية الأطفال المتسربين من التعليم والانضمام لسوق العمل اضطرارياً للإنفاق علي أسرهم وإيجاد بدائل ثابتة كمرتبات لإعالة هذه الأسر من قبل الدولة.
التطوير الفوري
ماجدة محمد سليم -ناظرة مدرسة المنيا الحديثة الإعدادية بنات- تقول: لابد من البدء بالتطوير الفوري للصعيد المهمل منذ عقود طويلة يدفع ثمنها الصغار والكبار علي جميع الطرق المؤدية للصعيد.. أما حديث الاختلاف حول الدستور وما يمثل من استخفاف بالحادث الجلل الذي تعيشه مصر كلها فهذا مكمن الخطورة. فالغد يموت علي قضبان القطارات ونجد من يطالب بعودة البرلمان لإقالة وزير النقل!!.. الذي قدم استقالته فعلاً ومثل أمام جهات التحقيق. فالأجدي بنا أن نعالج أسباب وقوع مثل هذه الحوادث من خلال البدء فوراً بخطة عاجلة لتطوير المزلقانات والقطارات ومحطات السكك الحديدية في صعيد مصر قبل أن يهدأ الحزن في القلوب وينسي المسئولون القضية تدريجياً ولا يتذكرونها إلا عند حادث مؤلم.
أما الدستور ومواده فسنقف بالرفض لكل من يتحايل علي حياة وحرية صغارنا وحقوقهم التي لابد وأن تكون واضحة وصريحة فيه.