قصة: مقبرة جماعية للنساء
في تلك الزاوية المعزولة عن البشر، وعلى هذه التبة العالية، لا أحد يعلم ما خلف تلك الأسوار العالية.
وعلى مقربة من هذا القصر الشامخ اكتشفت التنقيبات الأثرية مجموعة جديدة من المقابر الفرعونية، وحدد رجال البعثة الأثرية مكان المقبرة الرئيسية تحت القصر.
وبالتقصي عن القصر المهجور، لم يستدل على صاحبه؛ فالقصر غير مسجل ومبني على أرض وضع يد، لذلك مكنت قوات الأمن رجال الآثار من المكان، وبدأت التنقيبات الأثرية داخل القصر، واكتشف رجال الأثار السرداب الموصل للمقبرة.
و أدى اكتشاف المقبرة الرئيسية إلى تفسير سلسلة من الجرائم المدبرة والمقيدة ضد مجهول….
ففي الآونة الأخيرة كثرت البلاغات المتشابهة عن سيدات مفقودات؛ تركن قبل اختفائهن رسائل فحواها: ” لاتبحثوا عني، لن تجدوني”، وبعدها تعثر الشرطة على كيس بلاستيك به ملابس المفقودة وبطاقاتها الشخصية ورسالة مكتوب فيها “تخلصت من حياتي”. ولا أثر للجثة.
وقد أبلغ رجال الأثار عن جثة مشوهة المعالم داخل المقبرة، أكد رجال المعمل الجنائي أن الجثة لا يوجد بها أثار ضرب أو عنف، وأن صاحب الجثه مات بأزمة قلبية.
وربطوا بين المقتنيات الأثرية – الموجودة على مائدة صاحب الجثة والتي من المرجح أنها من محتويات المقبرة – وبين أوراق صاحب الجثة.
و تبين أنه صاحب مركز تجميل وشركة إنتاج سينمائي، وقد حققت الشرطة معه أكثر من مرة في أكثر من بلاغ عن سيدة مفقودة تبين أنها كانت تتردد على شركته ومركز التجميل، لكن لم تكن حوله أية شبهات….
وقد اكتشف رجال الآثار مجموعة من الزجاجات المليئة بالرماد، وصندوقا به خصلات شعر مختلفة مصبوغة بأصباغ حديثة.
وظلت علامات الاستفهام قائمة حول دوافع الجرائم، إلى أن وجدوا خزنة سرية في غرفة صاحب الجثة ؛وجدوا بها مجموعة صور لبعض السيدات المختفيات، و عقود زواج عرفي، وصندوق مجوهرات، وحقيبة عليها أرقام سرية؛ وجدوا بها كتيب مكتوب بخط سيئ ولغة رديئة يحتوى على معلومات هامة عن القتيل وأسرته، ويعد دليل الاتهام الوحيد ضده:
“في سجن الحضرة ولدت، وبين جدرانه المظلمة تفتحت عيناي. قضيت هناك عامين غير متتاليين. وأكملت طفولتي البائسة في مؤسسة لرعاية أبناء السجينات، وفي حديقة الملجأ لعبت، وهناك دخلت المدرسة.
ذكريات طفولتي بمعالمها الباهتة لا زالت تطل من مخيلتي؛ الحجرة التي بت فيها أيام وسنين ، الملابس الجديدة واللعب التي وهبها لنا أهل الخير، المدرسة، اتوبيس الرحلات، مسرح المدرسة، حفلات الملجأ….
كلها ذكريات جميلة رغم شقائي….
لم يكن يؤرقني في تلك الفترة غير أبي؛ الذي رفض استلامي بعدما أعلنته إدارة السجن. لم أكن وقتها أعرف السبب.
ليتني ما عرفته!!!!
ظللت هناك حتى قضت أمي فترة العقوبة؛ دخلت السجن بتهمة سرقة، وبعد بضعة شهور من برائتها صدرت عدة أحكام ضدها ( شروع في قتل، وتزوير في أوراق رسمية، و تعدد أزواج )، وبعد أكثر من ثلاث عشرة سنة خرجت بإفراج صحي من السجن.
وقتها لم أكن أعلم أن الخيانة تسير في عروقها، ربما التمست لها العذر أول مرة، عندما حاولت الخلاص من قهر زوجها العجوز، علامات الضرب المبرحة والسجائر التي أطفأها في جسدها لم يمح الزمن آثارها.
بعدما رفض أن يُطلقها قررت الهرب مع حبيبها، وظل ذلك العجوز يبحث عنهما حتى وجدهما.
اشتبك الرجلين معا، فضربته أمي بحجر واعتقدت أنه مات…
لكن مشهد عم “صبحي” زوجها الثاني عندما قدم إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل وانقض عليها وهي نائمة في فراشها وهشم رأسها لا يزال يترائ أمام عيناي. الغريب أن المحكمة برأت ساحته بعدما أتهمها بالخيانة….
لكني لستُ متأكدا من خيانتها له….
رغم أنه احتضنني ولم يتركني للكلاب الضالة، إلا إني كنت أكره بشدة، ربما لأنه حرمني من تلك الأم القاسية القلب؛ التي أخرجتني من المدرسة لأعمل عند عم “مسعود” في مستودع أنابيب البوتجاز مقابل خمسة جنيهات في اليوم وربما أكثر، ثمن علبة سجائر وزجاجة بيرة لعم صبحي العاطل ….
كرهت ذلك الرجل أكثر عندما كتب لي بيته قبل وفاته، علامات استفهام كثيرة كانت تدور في رأسي، ربما تلاشت لتسكن مكانها علامات استفهام أفظع؟؟؟؟
بعدما صارحني بأنه أبي الحقيقي، ذلك الأب الذي حرم ابنه من أبسط حقوقه…
قبل وفاته بأيام عرفت منه تلك الحقيقة المرة:
كان يعمل عند أبي المفترض، وكان شاهدا على رحلة عذاب أمي وقسوة زوجها ، كان يشفق عليها.
ربما تحولت هذه الشفقة إلى حب في يوم من الأيام، فاتفقا على الهرب.
لكن ذلك العجوز تمكن من الوصول إليهما، فلم يجدا طريقا يخلصهما من قبضة يده غير قتله.
ظنا أنه مات، فهربا إلى الإسكندرية حتى لا يُتهما في قتله، إذ لم يرهما أحد، جميع أهل الحي يعلمون أنهما هربا معا منذ شهرين…
وبعدها بأقل من ثلاثة أشهر نفذ المال و زدادت أحوالهما سوء، فعملت أمي خادمة في المنزل الذي كان يعمل فيه عم صبحي، وهناك أتهمها أهل المنزل بسرقة المجوهرات، فأتفقت معه على أن تكتب الجنين باسم زوجها الأول الذي لا وريث له؛ حتى أرث المحل والمخزن والبيت. وقتها لم تكن تعلم أنه مازال على قيد الحياة….
فقد كان ذلك العجوز لازال يعاني من فقدان الذاكرة.
وبعدما ولدتني أمي بشهور ظهرت براءتها وخرجت من السجن، وذهبت لتتزوج رسميا من عم صبحي.
وعندما طلب منها المأذون شهادة وفاة زوجها الراحل، رجعت إلى القاهرة لكي تضع يدها على التركة وتستخرج شهادة الوفاة، وعلمت من الجيران أنه لم يظهر في الحي منذ شهور.
أخبرها المحامي أن المحكمة لن تحكم أن زوجها مفقود إلا بعد مرور أربع سنوات، وساعدها المحامي في استخراج شهادة وفاة مزورة؛ بناء على تعرفها على جثة لشخص مجهول الهوية في مشرحة زينهم.
واستخرجت شهادة الوفاة ووضعت يدها على المحل والمخزن والبيت.
وتزوجت من عم صبحي، وبعد زواجهما بأقل من شهر عادت للعجوز ذاكرته و تقدم ببلاغ ضد أمي وعم صبحي بالشروع في قتله، والتزوير في أوراق رسمية، وتهمة تعدد أزواج، وعدت معها إلى مسقط رأسي رضيعا……
وبعدما اتضحت الحقيقة كرهت كل شئ، انهارت كل القيم أمامي، وأضحت الحياة لا تساوي شيئا….
بعت البيت ولعبت قمارا بثمنه ، وشربت خمرا. بعد طول التجوال في الطرقات والنوم على الأرصفة انتابتني رغبة صادقة في البحث عن عمل .
حاولت اشتغل سباك ونجار لكن للأسف طردت شر طردة. جربت اشتغل حرامي لكني فشلت. وقتها لم يكن أمامي إلا الرجوع لشغلة أنابيب البوتجاز، لكن منظر عم مسعود؛ ظهره المحني ورأسه الذي أصلع من حمل الأنانبيب، وفي النهاية بعد ثلاثين سنة ترقي وأصبح غفير المستودع. وصورة “رامي” صديقي لا تكاد تفارق عيناي ؛ فرقتنا تلك البوتقة اللعينة التي انفجرت بالقرب منه….
مثلي الأعلى كان مشرفين المجأ ومدرسين المدرسة، مهنة تجعل الأيدى ناعمة والحذاء لامع، والملابس نظيفة ومكوية…
عاطل ، جائع ، يبيت على الأرصفة، الشرطة اشتبهت فيه وقبضت عليه للتحرى عنه، لم يجد أحد ليضمنه ، لف على جميع أقسام الشرطة ومديريات الأمن، تمنى في لحظة أن تُقلب به سيارة الشرطة، أو يكون ضده أحكام، جاء عليه اليوم الذي يحسد فيه المساجين؛ أكل وشرب وشغل ونوم مجانا على نفقة مصلحة السجون، لابد أنه الحنين لمسقط رأسه!!!
ومضت الأيام وفي أحد أقسام الشرطة جمعت الصدفة بيني وبين أحد أصدقاء الطفولة؛ “وحيد” زميلي في الملجأ والمدرسة، أكمل دراسته واليوم استلم عمله الجديد، أخصائي اجتماعي…
عرفني، وضمنني، وفر علىّ مشقة الذهاب لبقية الأقسام وأحضر لي سندوتشات وكوبين شاي.
وبعد انتهاء موعد العمل اصطحبني معه إلى حجرته التي فوق سطح أحد العمارات الكبيرة، وهناك أخذت حمام دافئ ونمت لساعات، وبعدها ذهبنا إلى المقهى، وهناك عرفني على عم جابر الكوافير…
وفي اليوم التالي ذهبت بكل نشاط وأمل ورغبة في التغيير إلى محل عم جابر، وهناك بدأت أتعلم الصنعة.
بغير موعد دق قلبي وعرفت معنى الحب لأول مرة، وقتها عذرت أمي وعم صبحي…
ومرت الأيام وأدقنت المهنة، واعتمد علىّ عم جابر، وبدأت جيوب بنطلوني الأبيض تنتفخ من النقود ؛ كم حلمت بلبس بنطلون أبيض!!!
كل يوم بعد الشغل أوصل “سناء” – التي تعمل في محل الملابس المقابل – إلى منزلها، ويوم الإجازة نذهب إلى السينما…
ومضت أياما جميلة وخطبت سناء، وبعد عامين اشتريت منزلا، وبدأت اشتري الأجهزة والأثاث….
لكن القدر واصل صفاعته القاسية على وجهي؛ بظهور عم “حسنين” – زوج أمي الأول- في حياتنا ، عشت سنوات متوهم أنه أبي.
الحظ الأسود وضعه في وجه أبو سناء، ولاحقتني لعنة أمي وأبي…
وبعدها بأيام وجدت النور معلقا على بيت سناء ، وعرفت أن فرح سناء خلال أيام، طلبت منها أن نهرب ونتزوج…
لكني للأسف اكتشفت أنها لم تكن تحبني، كانت تحب الهدايا، تحلم بالراحة من التعب والشغل، تحلم بالسكن في عمارة جديدة، وبيت مفروش بالسجاد والأثاث الفاخر…
ومضت الأيام ومات عم جابر واشتريت المحل من الورثة، وبعت المحل واشتريت محل أكبر، وأصبحت أكبر كوافير في مصر، زبائني من الفنانات وسيدات المجتمع الراقي، وسكنت في قصر كبير، وفتحت مركز تجميل، وركبت سيارات أحدث موديل…
وارتبطت أكثر من مرة؛ ببنات يذكرونني بسناء؛ طامعين في الراحة والثراء، في درج مكتبي أكثر من عشرين عقد زواج عرفي، اقترن اسمي بأسماء لامعة في الوسط الفني، وفتحت شركة إنتاج سينمائي.
وفجاءة اكتشفت أني لست أكثر من مجرد معبر لعالم الثراء، كرهت المال والنساء معا، وتوقفت عن ملاحقة الشقروات والحسناوات…
قررت أن ابتعد عن البشر؛ اشتريت أرض شاسعة في زاوية معزولة عن البشر، مبني عليها قصر رائع ، محاط بأسوار عالية.
ذات يوم اكتشفت سرداب سري داخل القصر يقود إلى مقبرة فرعونية كبيرة….
نزلت مرات عديدة إلى المقبرة كي استجم، كان من الممكن أن تكون هذه المقبرة مصدرا جديدا لثراء من نوع آخر، لكني لم اُفكر قط في بيع قطعة آثار واحدة. ربما منعني حبي للمقتنيات النفيسة من ذلك.
لم يكن أحد يعلم شئ عن هذا القصر، لا يوجد به إنسان غيري….
وبعد وقت تسلل الملل إلى حياتي، فرجعت لمطاردة الشقراوات والحسناوات، باحثا هذه المرة عن الحب والاستقرار وتكوين أسرة.
لكن القدر ساق إلىّ سناء أخرى؛ كانت “هيام” فتاة جميلة تخرجت من الجامعة ولم تجد فرصة عمل مناسبة؛ فجاءت لتعمل سكرتيرة في مركز التجميل الجديد…
وبعد شهر وبدون مقدمات عرضت عليها الزواج؛ فوافقت، لكنها طلبت مني بعض الوقت. وظلت تطلب أشياء كثيرة كان آخرها سيارة، ولم أكن أرفض لها طلب، كانت ثقتي بها ليس لها حدود…
إلى أن عرفت أنها لازالت على علاقة بزميل لها، وتأكدت أنها اتفقت معه أن ينتظرها حتى تعود له بمبلغ كبير يمكنهما من بداية حياتهما….
جريت مسرعا إلى القصر، وتماديت في الشرب، وبعدها جاءت إلى القصر وفي يدها حقيبة ملابسها ـ فهي الوحيدة التي كانت تعرف مكان القصرـ وقالت أنها هربت من المنزل لأن أهلها أرغموها على الزواج من ابن عمها….
دون شعور ذهبت إلى المطبخ واحضرت ساطور ووقفت خلف الأريكة الجالسة عليها، وانهلت على رأسها من الخلف بالساطور، فسقطت صريعة من ضربة واحدة، حملت الجثة ونزلت إلى المقبرة ووضعتها في تابوت…
وبعد ثلاثة أيام ذهبت لأتحقق مما حدث، فوجدت الجثة كما هي، ربما تذكرت الفيلم الهندي الذي رأيته منذ أيام؛ فأخرجت الجثة إلى الخارج، وحفرت حفرة عميقة في الحديقة، ووضعت بعض القش وفروع الشجر ووضعت الجثة، واشعلت النيران مثل البطل الذي حرق زوجته الخائنة…
ولم يكف القدر عن معاكستي، لعلي أصبحت يد القدر المنتقمة من هؤلاء الطامعات المخادعات.
وبدأت في نصب الشباك لكل امرأة تقترب مني بهدف المنفعة والاستغلال، أغدقت العطاء وأكثرت الهدايا لكنهن للأسف طامعات في أكثر من ذلك، طامعات في تلك الثروة التي جمعتها بتعبي.
وبدأت اُخلص المجتمع من شرورهم؛ استدركتهن إلى القصر، وهناك أدس المخدر في كأس الضحية، ثم انهال على رأسها بالساطور، أرتب خصلات الشعر في صندوق ، وأحرق الجسد نهائيا، وأضع الرماد في قنينة، واضع القنينة في المقبرة…
في هذه المقبرة رماد أربعة وخمسين خائنة، منهم واحدة خلعت زوجها وتركت طفليها من أجل الثراء، تلك فقط من اهتزت يدي وأنا اُهشم رأسها، لا زال قلبي يأن على فراقها، إنها “سناء” حبي الوحيد.
آيات شعبان
هو دة فعلا حصل ولا خيال مؤلف بس لو دة حقيقة يبقى احنا مش عايزين ثورة انما عايزين قنبلة تنفجر في مصر كلها