رغم اعتقال الشرطة البريطانية للاسترالى “جوليان اسانج” صاحب موقع ويكيليكس الالكتروني.. فمازالت الوثائق السرية الأمريكية تتدفق عبر الموقع بصورة يعجز الكثيرون في العالم عن ملاحقتها.
أمريكا بالطبع هي الطرف الأول المقصود بنشر هذه الوثائق التي تكشف أسرارها الدبلوماسية مع دول العالم.
ولذلك فحين يصدر تحليل من أمريكي لعملية نشر الوثائق. فإنه يستحق التوقف عنده وإذا كان هذا الأمريكي في أهمية “وليام رو” الدبلوماسي السابق والمتخصص في شئون الشرق الأوسط فإن هذا يضيف للتحليل قيمة أكبر.
لهذا رأيت ان اترك هذه المساحة اليوم لمقال كتبه وليام رو ونشرته له صحيفة الاتحاد الإماراتية. يتناول فيه قضية نشر الوثائق السرية من زاوية مهمة وهي علاقة الإدارة الأمريكية بالصحافة والإعلام.
وفيما يلي نص المقال:
استرعت المراسلات المسربة مؤخرا من قبل موقع ويكيليكس انتباه العالم بأسره لما حملته من تفاصيل كانت تعتبر في عداد المعلومات السرية.
وهي لذلك حظيت بتغطية اعلامية واسعة واهتمام رسمي كبير.
لكن رغم الحرج الذي أحدثته الوثائق المسربة لدي دوائر القرار الأمريكية ذهب بعض المعلقين الى أن الحكومة الأمريكية ضالعة في تسريب البرقيات وكشف المستور.
فهم اعتبروا ان الولايات المتحدة بكل قوتها والإمكانات المتوفرة لديها لجمع المعلومات والتحكم فيها لا يمكن أن يمر هذا العدد الهائل من الوثائق والمقدر بربع مليون وثيقة تحت أنف الاستخبارات الأمريكية دون ضوء أخضر من أوباما نفسه لهدف ما.
والحال ان هذا الافتراض خاطيء تماما فالمسألة أكثر تعقيدا من نظرية المؤامرة التي يلجأ إليها البعض لتفسير ما جري لأن الأمر متعلق بطبيعة العلاقة غير الودية في الكثير من الأحيان بين الحكومة والإعلام الأمريكيين.
تلك العلاقة القائمة أساسا على الخصومة والتنازع وبموجب هذه العلاقة يعتقد المهنيون في وسائل الإعلام المختلفة انه من واجبهم رصد ما تقوم به الحكومة وكشف الأسرار التي تسعي الى اخفائها ما داموا معنيين بممارسة الرقابة على النشاط الحكومي ومحاسبة المسئولين الرسميين.
والحقيقة ان العديد من الأمريكيين العاديين يتعاطفون مع هذا الرأي ويساندون جهود وسائل الاعلام في كشف المعلومات التي تتيح لهم التعرف عن كثب على ما تقوم به الحكومة ومراقبة تجاوزات بعض مسئوليها لأن ذلك من صميم النظام الديمقراطي.
يضاف الى ذلك ان الرأي العام ليس على علم بالمعلومات التي تعتبرها الحكومة سرية ويتشكك في أن يعمد المسئولون الى اخفاء الأخطاء والهفوات بدعوي انها تندرج في اطار المعلومات السرية التي تمس الأمن القومي.
أما الحكومة فهي تبذل جهودا كبيرة لضمان ان الدبلوماسيين وباقي المسئولين الذين بحكم عملهم يطلعون على المعلومات. لن يكشفوا عنها في وقت من الأوقات من خلال اخضاعهم أولا وقبل توظيفهم الى فحص أمني صارم للتأكد من ولاءاتهم.
هذا بالإضافة الى ادائهم قسم الحفاظ على أسرار الدولة وعدم عرضها على الملأ.
وهم بموجب هذا التعاقد لا يحق لهم كشف المعلومات السرية لغير الجهات المخولة بذلك.
لكن اختلاف وجهات النظر بين الحكومة من جهة والإعلام من جهة أخرى حول طبيعة المعلومات ومدى سريتها. هو ما يثير الجدل ويخلق التباين في المواقف بين الضغوط التي يمارسها الصحفيون والإعلاميون على مصادر حكومية لكشف ما لديهم وتنوير الرأي العام كجزء من السلطة الرابعة للإعلام التي تخولها الديمقراطية وبين اعتبارات الأمن القومي التي يصر عليها الرسميون.
وفي أغلب الأحيان يكون هذا التجاذب صحيا بالنسبة للديمقراطية الأمريكية إذ يبقي الشعب على علم بدواخل الأمور التي تتيح له تقييم العمل الحكومي وتكوين رأي حول ما يجري دون تعريض المصالح العليا للبلد لأي ضرر مترتب على ذلك.
هذا الاتفاق الضمني بين الإعلام والمسئولين يدفع الحكومة الى توخي أعلى درجات الشفافية الممكنة تجنبا لأية فضائح قد تكون تكلفتها السياسية مرتفعة.
لكن مع ذلك يتعرض الاتفاق الضمني بين الحكومة والإعلام لاختبار حقيقي عندما يحصل أحد الصحفيين على معلومات مهمة يراها صالحة للنشر ويخالفه المسئولون الحكوميون الرأي بحيث يسعون الى وقف النشر وهو ما حصل مع وثائق ويكيليكس.
لقد عرفت الحكومة قبل عدة أشهر انها على وشك الظهور الى العلن لاسيما وزارة الخارجية التي تخوفت من المراسلات السرية التي كان يبعث بها دبلوماسيوها وتضم معلومات حول اجتماعاتهم مع قادة الدول وخلال المفاوضات الشاقة التي دارت بين وزارة الخارجية ووسائل الاعلام التي عبرت عن رغبتها في نشر الوثائق المتحصل عليها وجدت المؤسسات الاعلامية نفسها في حيرة من أمرها بين اطلاع الرأي العام على ما تضمه الوثائق من معلومات حساسة وبين التخوف من ان يؤدي نشرها الى ضرب المصالح الأمريكية والنيل من ثقة العالم بالدبلوماسيين الأمريكيين.
وفي هذا السياق وتجنبا للمتابعة القضائية في حال نشر معلومات سرية تمس أمن الدولة ارتأت وسيلتان اعلاميتان نشر ما لديهما بالتزامن لتعزيز الموقف الإعلامي وجعل الأمر صعبا على الحكومة التي لا تستطيع فتح جبهات متعددة على وسائل اعلامية عديدة حتي ليبدو الأمر وكأنها تسعي الى تكميم الصحافة وهو ما يتعارض على كل حال مع البند الأول في الدستور الأمريكي الذي يكفل حرية التعبير ويجعلها أساسا للنظام الديمقراطي الأمريكي.
ومع ذلك ظلت ردود الفعل بعد نشر الوثائق في الصحافة ووصولها الى الرأي العام متضاربة بين من اعتبرها جديدة للغاية وتحمل معلومات غير مسبوقة تضيء العديد من الجوانب المعتمة في الدبلوماسية الأمريكية وبين من تعامل معها على انها تحصيل حاصل وانها لا تكشف إلا ما كان معروفا في العلاقات الدولية من قبل وما كان متداولا في أروقة صنع القرار.
لكن مع كل هذا الجدل الذي أثاره موقع ويكيليكس تبقي مجموعة من الاسئلة الملحة التي تبحث لها عن أجوبة مثل من قدم المعلومات للموقع؟
وإذا كان الأمر يتعلق فعلا بجندي أمريكي فكيف يمكن لموظف صغير في وزارة الدفاع الاطلاع على هذا الكم الهائل من الوثائق والمعلومات؟
وهل كان هناك آخرون متورطون في عملية التسريب؟
نحن نعرف ان الاطلاع على المعلومات يتم وفقا للحاجة التي يمليها موقع الموظف فكيف لجندي بسيط لا يخول له منصبه الاقتراب من مصادر المعلومات الحصول عليها؟
وأخيرا ماذا عن جوليان اسانج الرجل الذي يقف وراء ويكيليكس؟ وماذا عن الدوافع التي تحركه؟
هل يسعي الى الحاق الضرر بالمصالح الأمريكية أم ان الأمر يتعلق بشخص متطرف في إيمانه بحرية الصحافة ويعتقد ان لا شيء يتعين اخفاؤه عن الجمهور؟
ثم كيف يمكن للولايات المتحدة ايقاف نشره لمعلومات أخرى وهو الاسترالى الذي يعيش خارج الولايات المتحدة؟