نداهة الثورة.. لماذا تشدنا للوراء

علي عكس “نداهة” الفلاحة المصرية البسيطة رمز مصر في رؤية يوسف إدريس. وكانت تشدها نحو المدنية والحياة والتطور.. أندهش لحالنا الراهن مع ثورة يناير التي يقال إنها ثورة شبابية أو هكذا بدأت ولكن التطورات وواقع الحال يؤكد أنها تزحف نحو الماضي. وتشدنا لزمن غير زماننا. وعالم غير عالمنا المعاصر.
تواري الشباب. أو تراجع منهم الكثيرون بسبب التفتت أو خلافات الأشخاص. أو الأيدلوجيات. وبات يسيطر علي الثورة أو يجني مكاسبها الكبار حتي ولو ادعوا أنهم يمثلون الشباب. ويحملون فكره ورؤاه.. ولكن الواقع يؤكد أن هذه الثورة لن يجني ثمارها الشباب الواعي المستنير.
راودتني هذه الخواطر. وأنا أتابع ندوة لم يزد عدد حضورها علي عشرة أشخاص رغم الإعلان المسبق عنها بأحد النوادي الكبري بالقاهرة وهي لأستاذ جامعي للعلوم السياسية من نشطاء الثورة وميدان التحرير يحمل علما ورؤية وفكرا إنسانيا راقيا. وقد جاء يروج لدعوة أو وثيقة تحمل اعلانا لما يطلق عليه العدالة والحرية للإنسان المصري يؤكد علي إعادة إحياء الشخصية المصرية بعدما تعرضت علي مدي أكثر من نصف قرن للتهميش والافتئات علي حقها في إرادة الاختيار من أجل صنع حياتها في الحاضر والمستقبل وتطوع آخرون للتحدث واتخاذ قرارات مصيرية بشأنها دون تفويض منها.. مشيرا الي أن الثورة أيقظت هذه الأغلبية الصامته التي عبرت عن نفسها في ميدان التحرير وكافة أنحاء مصر. وهي تقدر بما لا يقل عن 15 مليون مصري آن الأوان ليعود إليها حقها في وضع إعلان مبادئ مصري يلزم كل حزب مهما كان فكره السياسي أو الأيدولوجي أو العقائدي يترشح بهدف الوصول للحكم والسلطة بهذه المبادئ الإنسانية التي تضمن للإنسان المصري حقوقه الطبيعية المنصوص عليها في هذه الوثيقة وهذه الوثيقة أو هذا الإعلان بمثابة إعلان “الماجنا كارتا” البريطاني الصادر في القرن الثاني عشر وكان ضمانة للمواطن رغم ان الدستور الانجليزي غير مكتوب ولكنه يعد من أقوي الدساتير الملزمة المعمول بها في العالم.
***
لاشك أن مثل هذه المبادرات السياسية جيدة ومطلوبة وهي تحاول أن تنقذ الحالة السياسية الراهنة من السقوط في حجر تيار سياسي بعينه يري في نفسه القدرة علي الانفراد بالساحة السياسية والفوز في أقرب انتخابات تشريعية أو غير تشريعية قادمة. ولكن هذه المبادرات المحدودة هل تستطيع أن تغير الواقع السياسي الذي تعيشه مصر عقب مرور ما يقرب من 5 شهورعلي ثورة يناير وسقوط النظام السياسي وحزبه الحاكم الذي كان يحتكر العمل السياسي ويفوز في أي انتخابات ب “العافية” والتزوير ليشكل واقعا لا يسهل الفكاك منه.. لاشك أن هذا الواقع بالفراغ السياسي يمثل مأزقا لمستقبل مصر في المرحلة الراهنة خاصة بعد الاستفتاء الأخير علي برنامج المرحلة الانتقالية والاتفاق علي اجراء الانتخابات التشريعية في سبتمبر القادم.. وهو ما يقابله دعاوي أخري مطالبة بعدم التعجل في هذه الانتخابات التي ستكون فرصة لا تعوض للتيارات الدينية التي بدأ بعضها يحاول ان يتسق مع المتغيرات الجديدة والتحول الي أحزاب مدنية بعضها يغازل دولا اقليمية ومنظمات ذات توجهات ايدلوجية من أجل السيطرة علي مصر الكبري وادخالها في منظومة التحالفات العقدية التي ربما يقودها الي حروب جديدة في المنطقة توجه لها كل الطاقات خاصة البشرية التي لم نعد نملك سواها ولتتوقف كل جهود التنمية والسعي للرخاء والرفاهية وكأنه كتب علي أجيالنا في الماضي والحاضر ألا ننعم بالحياة الكريمة مثل دول أخري كثيرة سبقتنا في تحقيق التنمية والرخاء لشعوبها.
***
إنني أشعر ان مثل هذه التوجهات السياسية الشبابية محاصرة لا تجد نفسها وسط الواقع السياسي الذي أفرزه الفراغ السياسي بعد ثورة يناير.. أري وجوها من الماضي الآن تسيطر علي الساحة سياسيا وفكريا واعلاميا ينظرون الي الوراء أكثر مما يفترض ان يتوجهوا بنا الي الأمام!
إن المتابع لمجريات الأمور في بلدنا يلحظ أن نداهة الثورة لا يحركها سوي التأمل في أحداث وسياسات يفترض أن نكون قد تجاوزناها بتخلصنا من النظام السابق وهو بكافة أعوانه ورموزه قيد التحقيق والمحاكمات. وهذا يكفي لكي يتفرغ الساسة ورجال الصحافة والإعلام الي قيادة الأمة نحو المستقبل. ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
لقد تركنا قضايانا الأساسية وتفرغنا للحديث عن ذكريات ومواقف سياسية وشخصية وتصفية حسابات بين أنصار النظام السابق أو حتي بحجة استخلاص العبر والعظات أو عدم تكرار الأخطاء.. في حين أنه كان يجب أن تفسح الصحف وشاشات الفضائيات لمناقشات علمية وسياسية لكيفية تجاوز مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية التي تحاصرنا من كل جانب وتزداد صعوبة في ظل الانفلات الأمني وتوقف عجلة الإنتاج.
لم نعد نسمع الآن عن أخطر مشاكلنا وهي الزيادة السكانية التي يجب ان نسيطر عليها قبل ان نناقش طموحات سياسية وديمقراطية وقد برزت تداعيات هذه المشكلة الخطيرة بقوة في الفترة الحالية مع صعوبة السيطرة علي الشارع المصري والعشوائيات واحتلال الباعة الجائلين للشوارع والميادين في كل أنحاء مصر.. وخطورة انهيار شبكة المرافق والخدمات إذا ما افتقدنا القدرة علي الإحلال والتجديد في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
كنت أتصور ان تنطلق مبادرات ثورية نحو ايجاد حلول لمشكلة البطالة والشباب العاطل الذي تخرج منذ سنوات طويلة. لا يجد عملا ويتعرض لعمليات سخرة واستغلال ظروفه الصعبة بعمليات النصب في مسابقات التشغيل وتحصيل رسوم اختبارات أو العمل بأجور متدنية لا توازي نفقات المواصلات أو وجبات الطعام ليوم كامل يقضيه في العمل.
كنت أتصور أن تتغير ظروف غياب العدالة في تفاوت الأجور بين العاملين في قطاعات الدولة. وعدم انعكاس التغيير الثوري علي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية فمازالت الدروس الخصوصية علي أشدها. ومازالت اعلانات الشاليهات والشقق ذات الأسعار المليونية تملأ الصحف تزيد الناس يأسا واحباطا في الإصلاح المجتمعي.
لقد استغرقنا في الحديث عن افتراضات سياسية وخلافات عقائدية ومقدمات فتنة طائفية وجدل عقيم هل يصح أن يكون رئيس الدولة غير مسلم. أو أن تتولي امرأة حكم مصر. ومشروعات سلفية ودعوات لإطالة الذقون واللحي. وإني بصراحة لأعجز عن الإجابة عن سؤال: هل هذا الذي تعيشه مصر الآن هو المجهول الذي حذر البعض منه؟!
***
إن المطلوب الآن أن يلملم الشباب شتات نفسه. ويتوحد بأي شكل كان تحت قيادة واحدة شبابية أو غير شبابية. ولكن يكون بمقدورها أن تحمل آمال مصر وشعبها في الحاضر والمستقبل ودون أن تشدها تلك النداهة الغريبة الي الماضي والي المجهول.. وأن يكون لدي شيوخ مصر وأيضا عواجيز الفرح من الشجاعة لأن يتركوا الساحة للشباب المتعلم والمتحضر القادر علي أن يدفع بعجلة الحياة نحو المستقبل لأن مصر عاشت ما يكفيها من سنين في ظل قيادات كبرت وشاخت وهي في سلطة الحكم والفكر والإعلام.. وآن الأوان لمصر ان تنطلق بعيدا عن نداهة الماضي حتي ولو ادعت هذه النداهة الحكمة أو الأصولية أو السلفية.
إن العالم من حولنا يسعي ويلهث نحو العلم والفكر المتحضر الكفيل بأن يرعي تطورا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا يقود الشعوب نحو الحياة الكريمة والأخلاق الفاضلة التي لا تحتاج واعظا يرشدها بقدر ما يحركها ضمير جمعي مجتمعي يحثها نحو القيم البناءة الحاضنة للتقدم والازدهار والنمو.
يا شباب مصر.. توحدوا حتي لا تسرق مصر كلها منكم.. وليس الثورة وحدها.

أضف تعليقاً